دون كيشوت يعود من جديد / قصة قصيرة
اعتاد هروبى سائلا إياه الرحمة .. أهرب مرة بعد أخرى أتوارى عنه ، اخترق ضباب الفجر ، وأباعد بين خطواتي .. لكنني دائما أعود محملا بهزيمتي ، أنكمش ، أنداح بداخلي كي لا يراني .. يأتيني سؤاله المباغت إلى أين ؟!
ثم يقول : يا أنت .. في البدء تسجن بين هاوية العشق وبين هاوية الموت ، وفي المنتهى يرفرف بقلبك كبد تعرفه ، ثم تنوي الرحيل .. تلملم في طيات ردائك زاد السفر الطويل ، ثم تخرج .. ترحل هربا مني .. لكن لا سبيل ، فاحذر فبدوني لن تكون - بذرة أنا ، أتماهى ، أتحين لحظة هي الانقضاض ؛ فيكون موعدنا منتصف الوحشة في العروق .....
وحدي بين شبق الوجد وانصياع الأرض لاختراق البرعم الصغير ، أقاوم ذبح بكارة الليل بدمدماتي الحالمة ، لكن تأسرني تجمعات الرؤى الضبابية .. تتجلى حوراء العينين ، ناهدة الصدر ، تتأود ، تفسح بين شقوق الثوب الوردي عن جسد بض ، تقترب مني ، تطلب شربة ماء ، أتركها عطشى ، وأسير ، تتبعني ، تفتح ذراعيها .. " هيئت لك ، افتح ساعديك واعتصرنى " أجرى ، أهرب ، تتبعني ، أسقط ، أنهض ، أجرى ، تتبعني ، أس .... قط ، تمسك بردائي .. أه .. تف من أعماقي : الموعد يقترب وقد لا يتم الوصول .... تأخذني بين ذراعيها ، تمرر أظافرها بجلدي وتقول :
- جسدك أملس نحيل
أنكمش ، أتضاءل بين ذراعيها ، وهي لا تفتأ تعبث بجسدي ، لا أعي كلماتها عن العرى الفادح وشرائها إياي بثمن بخس . أنفلت من بين يديها ، أحاورها ، أداورها ، أتذكر عطر حبيبتي التي رحلت .........
" بعد أن أعطت جسدها للملاءة البيضاء ، خالت نفسها تلج سطح نهر ساكن .. سمعت من يقول : يا داخل هذا المكان ..." حاولت تخمين البقية ، لكن الذاكرة خذلتها ، مدت يدها تحسست بقعا حمراء قاتمة ، دندنت بأغنية قديمة - علشان الشوك إللي في الورد أنا أحب الورد .. تعجبت كيف يعشق الورد من أجل الشوك الذي يدمى - غطوها بملاءة أخرى ؛ فارتفع الماء والطين اللزج قارب قدميها .. تحسست جسدها النحيل المتعب ، فرحت أن نسيت شدادة نهديها وسبحت . رأت نساء الأسرى الموتى .. يحملن الأطفال ويعددن القهوة ؛ فكان عليها إعداد الكلام المناسب .. فلم تجد غير صدى الصمت " .. نبدأ طقوس العشق كنا بالتقاء .. و .. و انصهار وصرخة ندت عنا لحل وثاق الرؤى الضبابية .
أصحو رأسي ملقى بتجويف صدره الاسطواني المدرب العضلات ، أصابعه غادية .. ٱتية تغوص بلحمي وتحدد نتوءات عظامي ، تلوكني كالعجين ، متعبا أرنو إليه وأقول :
- هأنذا إليك أعبر السبع العجاف
يوميء إلي قائلا :
- تخير من بين النساء
- اخترت دولسينيا
- وهل ترضى أمك ؟!
- ستسأل أمي .. وهل نادى الطير في السماء ؟!
- أتعرف دون كيشوت .. لقد مقت دولسينيا ، وعاث فيها كالٱخرين ، تخير أخرى
- اخترت نحيلة القد
- عذراء ماتت بغير جرح
" انفلتت خلف خصاص النافذة ، شاحبة الوجه ، أجالت بصرها في جميع الجهات ، اشتد الجوع عليها ؛ فاعتصرت بطنها بيديها ، تسللت إلي زاحفة ، أخذت تهدهد رأسي بكفيها ، فإذا الفجر يباغتها خاوية الكفين ..فتدخل في النوم الطويل " .. أتذكر حزني لقولها " جسدك أملس نحيل " وهي التي أخذت نتف من جلدي بين أظافرها ..
يأخذني يدي في يده .. لا تسعنا الأرض طولا ، أمرح بين ثنايا أصابعه ، أتعجب من نعومة كفه ، أتحسس جسدي المليء بالشقوق ، أرسل عيني مقتفية ٱخر أسراب النوارس ، أتمنى لو أني أتبعها . اقتربنا من نهاية الطريق ، فإذا بحوراء العينين ناهدة الصدر - مفترشة الأرض ، تتوسط الجالسين ، ملتفة بعباءة فضفاضة ، ترنو إليهم ، صامتين ، متحدثين .. وهي جالسة لا تتململ ، من الذي أعطاها هذا الجلال ؟! . أشارت إلينا ، فجلسنا صامتين ، أشارت بسبابتها لشفتيه ؛ فتحدث وزبد فمه يتناثر .. حكى عن البيت العتيق - كلما مررت أمامه تعتم بقعة في الصدر - بدأت أحجاره تتساقط ، وكلما يقع حجر ، يموت رجل ، ثم يختفي الحجر ، توجس الناس خيفة ، صار كل من يمر أمامه ينتظر موته . قالوا إن ماردا يأخذ الأرواح ليبني بالأحجار بيتا ٱخر في بقعة أخرى .. فكر الكل في الرحيل ، لكن لم يستطعه أحد ؛ فكلما خرج رجل أصيب بالشلل .. " انثالت الحكايا على شفتيه ، وزبد فمه يتناثر ، بإشارة من يدها أسكتته .. وأشارت إلي أن أتكلم ، فأشرت لقلبي صامتا ، وأغمضت جفني علي أتلمس يدها تهدهد رأسي المثقل بشظايا دمها المتخثر .
متعبا أفر منه ، وهو لا يفتأ يبحث عني ، فأكون بين ذراعيه .. بيديه يعبث أسفل خاصرتي ؛ فيزيد انكماش جسدي النحيل .. أصبح حرا وأسرني ، طمس قاموسي ، ولم يبق لي سوى الهمهمات .. وما سجد لي كوكب ، ولا الشمس والقمر كانوا لي ساجدين ، حتى أجنحة النجوم ، ذبحها ، سقطت إلي .. تراشقت وذرات التراب ....
دون كيشوت يعود من جديد / قصة قصيرة
عبد الناصر سراج الدين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق